ما بين المعادلة والبوستر: حين يتحوّل التصميم إلى مسألة حسابية

لطالما كنتُ قريبًا من عالم الأرقام. أحببتُ المعادلات، الاحتمالات، المنطق، والخوارزميات. كنت أرى في كل مسألة حسابية معضلة لها احتمالات، ولها حل أمثل ينتظر أن يُكتشف. تلك كانت بدايتي.
ثم، وبشكل شبه متزامن، انطلقت في عالمَين يبدوان متباعدَين على السطح: البرمجة وتصميم الجرافيك.
بدأت أبرمج وأصمّم معًا، منذ لحظة خروجي من الحسابات والمنطق. لم يكن اختيارًا عشوائيًا، بل مسارًا وجدته يُشبع حاجتي للتحليل من جهة، وللتعبير البصري من جهة أخرى.
وفي كل منهما، كنت أجد نفسي أبحث عن شيء واحد: حل.
التصميم… بوستر أم حل؟
في رحلتي مع التصميم، فهمت أنه ليس مجرد تجميل أو تنفيذ لما يُطلب. التصميم الجرافيكي – كما أعيشه – هو بحثٌ دائم عن حل بصريّ عادل.
تحاول أن تُرضي العميل… ومديره… والمستخدم… ومديرك… ونفسك.
تحاول أن تبني “معادلة رضا” فيها أطراف متناقضة: من يحب الحداثة، ومن يحب الكلاسيكية، من يريد السرعة، ومن يريد العمق.
وفي كل تصميم، هناك لحظة تشبه حل المسائل الحسابية: لحظة تصل فيها إلى التكوين الذي “يشتغل”… الذي يحلّ كل شيء دفعة واحدة. لكنه لا يأتي صدفة. هو نتيجة فرضيات وتجارب وقرارات وشك.
تطوير المواقع والبرمجة… التفاصيل التي تصنع الفرق
بالتوازي مع التصميم، كنت أغوص في تطوير المواقع.
البرمجة – بالنسبة لي – لم تكن أداة تنفيذ، بل فن هندسي له منطقه الخاص.
كل موقع إلكتروني هو تجربة، نظام من التفاعلات، لوحة تحكم.
وأنا كمطوّر، عليّ أن أحقّق ما يتخيله المصمم، وما يحتاجه المستخدم، وما تسمح به الأدوات.
وفي خلفيّتي الحسابية، كنت أرى كل مشروع تطويري كمعادلة متعددة الحدود:
الأداء = الكفاءة + الجمالية + التوافق + الأمن + البساطة في الكود
والتجربة = التصميم + التفاعل + المنطق الداخلي للمستخدم
وتلك المعادلة… لا تُحل بسهولة.
ثم دخل التسويق… فازدادت التعقيدات
ومع دخولي لعالم التسويق، بدا الأمر أكثر تعقيدًا.
فالتسويق ليس فقط نشر فكرة أو منتج، بل إيصال رسالة لها أثر.
كيف تقولها؟
كيف تصيغها؟
فيديو؟ صورة؟ جملة؟
كيف تُقنع المستخدم؟
وتُقنع مدير التسويق؟
وتُقنع ضميرك المهني أن ما تفعله له معنى؟
هنا تعود المتاهة…
نفس معضلة التصميم، لكن بوسائل أوسع، ومتغيرات أكثر.
وتبدأ ببناء الفرضيات، وتحليل الجمهور، وتجربة الطرق، وتعديل المسار، وربما العودة إلى نقطة الصفر.
رحلة نحو الشهادات… والتفكير المنهجي
لم تقف رحلتي عند التصميم أو البرمجة أو التسويق،
بل كنتُ دائمًا أجد نفسي مدفوعًا بالرغبة في الفهم الأعمق والتنظيم الأشمل، مما قادني إلى التوسّع في مجالات أخرى.
تعلمت، وجرّبت، ثم تعمّقت في إدارة المشاريع،
وحصلت على شهادة PMP® العالمية،
كما خضت تجارب وشهادات في التفكير التصميمي (Design Thinking) وتجربة المستخدم (UX).
كل شهادة لم تكن مجرد ورقة، بل كانت مرآة جديدة لفهم ذاتي ومهنتي بشكل أوسع:
-
كيف تُخطّط؟
-
كيف تُحدّد الأولويات؟
-
كيف توازن بين الهدف والوسيلة؟
-
وكيف تقود فريقًا دون أن تفقد ملامحك الإبداعية؟
صراع دائم: البساطة أم الابتكار؟ الجاذبية أم المعنى؟
ما يشغلني دائمًا هو ذاك الصراع بين الخيارات:
هل أختار الحل البسيط الذي يصل سريعًا… أم الحل الذكي الذي يترك أثرًا؟
هل أذهب إلى الجمال البصري… أم أصرّ على المعنى العميق؟
هل أُرضي نفسي؟ أم أُرضي غيري؟
ومتى يكون الرضا توازنًا… ومتى يكون خيانة لفكرة أقوى؟
هذا الصراع لا يُحسم، بل يُدار.
وأحيانًا أغرق في التفاصيل… أغوص بعيدًا، وأُتعب نفسي بالبحث في الاحتمالات. لكني أؤمن أن في التفاصيل يسكن الفارق، ويسكن “الفرق الصغير” بين عمل يُرى… وعمل يُشعر.
التصميم، البرمجة، التسويق، الإدارة… كلها وجوه لمعادلة واحدة
حتى حين أعمل على حلول برمجية أو أفكار لتجربة المستخدم أو تنظيم المحتوى أو إطلاق حملة تسويقية أو قيادة مشروع… أجد نفس النمط يعود:
تحليل، فرضيات، تجريب، محاولة فهم السياق، وأمل في الوصول إلى نقطة تلتقي فيها كل الاحتمالات في “حلّ واحد”.
الحل الذي “يشبهك”… ويُرضي غيرك… ويعيش بعدك.
في الختام:
ربما كل ما أفعله – تصميمًا أو تطويرًا أو تسويقًا أو قيادة – هو محاولة متكررة لـ حلّ معادلة بشرية، بصرية، تواصلية، قيمية… معادلة لا تُحل دفعة واحدة، بل عبر مراحل، فيها كثير من الضياع… وكثير من الجمال.
وكل مرة أصل فيها إلى حل، أعرف أن هناك حلًا آخر أجمل ينتظرني… في مشروع جديد، أو تفصيلة صغيرة، أو سؤال لم يُطرح بعد.