والدي… حين يربّيك بالصمت والحرية

والدي… حين يربّيك بالصمت والحرية

لا أتذكر أول لعبة اقتنيتها، لكنني أتذكر جيدًا أول لعبة صنعت عالمي الداخلي: الليغو. كنت في الخامسة أو السادسة من عمري، وفي زمن كانت فيه الألعاب نادرة، والخيال محدود بما هو متاح، جاءت الليغو كنافذة مفتوحة على عالم لا ينتهي. لم تكن مجرد قطع تُركّب، بل كانت أدوات لأصنع بها ما أراه في رأسي، ولأحوّل الخيال إلى شكل. كانت تلك هي لحظة التكوين الأولى في علاقتي مع الابتكار.

والدي هو من فتح لي هذا الباب. لم يكن يشتري لي الألعاب الجاهزة، بل كان يوفّر لي أدوات بسيطة: كرتون، شريط لاصق، عجلات قديمة،علب، أغطية قوارير. وكان يترك لي المساحة لأجرب. لم يكن يشرح أو يوجّه كثيرًا، كان فقط يقول: “جرّب.”

تعلّمت من خلاله أن الحلول لا تأتي دائمًا جاهزة، بل تُصنع. كان يعلّمني دون أن يُلقي درسًا، وكان يُربّيني دون أن يرفع صوته. لم أسمع منه كلمة جارحة، ولا شعرت منه يومًا بالعنف. كان يختار كلماته كما يختار البستاني موضع البذور، ويتركها تنمو على مهل، بثقة.

والأجمل من كل هذا، أنه لم يكن متسلطًا. لم يكن يفرض طريقًا ولا قرارًا. كان يؤمن أن الإنسان، بطبيعته، يعرف الخير من الشر. وأنه بمجرد ما يُمنح الثقة، سيعرف إلى أين يتجه. وكنت أشعر بذلك، أشعر أنني مراقب بعين المحبة، لا بعين الشك. وهذا الشعور وحده كان يكفيني لأراجع نفسي، لأفكّر، لأتخذ قراراتي بوعي.

أبي ربّاني على الحرية. لكنها لم تكن حرية فوضوية، بل حرية مسؤولة، تُبنى من الداخل. حرية جعلتني أختار، أجرّب، أخطئ أحيانًا وأتعلم. لم يكن يدفعني لأكون مثاليًا، بل لأكون صادقًا مع نفسي.

وجوده بهذه الطريقة في حياتي كان أعظم دعم تلقيته. لم يقل لي ما هو الصواب، بل جعلني أصل إليه. لم يمسك بيدي، بل جعلني أبحث عن الطريق. وهذه أعظم هدية يمكن لأب أن يمنحها لابنه: أن يعلّمه كيف يصبح نفسه.

_____

كتبها: عيّاد شكري | أبويحي

AYAD CHOKRI
انتقل إلى أعلى