اختلاف النسق في بيئات العمل – التحدي الخفي في بناء إيقاع جماعي منتظم

في بيئات العمل الحديثة، يبرز تحدٍ خفي لا يناقش كثيرا، لكنه يؤثر بشكل مباشر على إنتاجية الفرق وجودة التعاون بين الأفراد.
إنه اختلاف النسق في أداء المهام، أو ما يمكن تسميته بتفاوت الإيقاع العملي بين الموظفين.
1. التفاوت الطبيعي بين الأفراد في النسق
بعض الموظفين يعملون بنسق سريع، يحبون الإنجاز الفوري، يتعاملون مع الوقت كعنصر حاسم، ويرون في التباطؤ علامة على الضعف أو التراخي.
في المقابل، هناك من يفضلون التروي، التفكير المتأني، والقيام بالعمل بعد تمحيص. هذا لا يعني أنهم أقل كفاءة، بل هو اختلاف في نمط التعامل مع الضغط والزمن.
النسق ليس مسألة جودة، بل مسألة طبع وإدراك زمني.
2. الفرق بين السرعة والعجلة
من الأخطاء الشائعة في البيئات الإدارية الخلط بين السرعة والعجلة.
السرعة هي الكفاءة في الإنجاز ضمن وقت مناسب وبدون توتر مفرط. أما العجلة فهي استجابة آنية لضغط زمني قد يكون وهميا أو غير ضروري.
الموظف السريع ليس دائما الأكثر تنظيما، كما أن الموظف المتأني ليس بالضرورة بطيئا أو متخاذلا.
3. آثار هذا التفاوت داخل الفريق
هذا الاختلاف قد يولد ضغطا غير معلن داخل الفريق.
-
الموظف السريع قد يشعر بأن زملاءه يعرقلون تقدمه
-
الموظف المتأني قد يشعر بأنه مطارد وغير مرتاح
-
الفريق ككل يبدأ بفقدان الانسجام، وتظهر علامات توتر خفي يصعب قياسه
ومع تكرار هذه الحالات، تبدأ الانقسامات، وينشأ نوع من التنافس غير الصحي حول “من يعمل أكثر ومن يعمل أسرع”.
4. صعوبة بناء نظام توازني مشترك
إن محاولة فرض نظام واحد للكل قد تؤدي إلى اختناق البعض وتوتر الآخرين.
ما يحتاجه الفريق هو ضبط إيقاع مشترك لا يقتل الاختلاف، بل ينظمه ويستثمر فيه.
هنا تظهر أهمية ما يسمى في الإدارة التنظيمية بـ “التنسيق الزمني”، أي تحديد جرعات زمنية واضحة للجميع، دون أن نلغي التباين الفردي.
5. غياب الوعي لدى الإدارة العليا
غالبا ما لا تنتبه الإدارة العليا لهذه الفروقات لأنها لا تظهر في التقارير أو الأرقام.
لكنها تؤثر في الجو العام، في جودة الاجتماعات، في القدرة على الابتكار، وفي معدل الاستقرار الوظيفي.
عدم إدراك هذا التحدي قد يؤدي إلى استقالات صامتة، أو غياب روح الفريق، أو ضعف الالتزام الجماعي.
6. المدير الفعّال يصنع النسق لا يفرضه
دور مدير الفريق هنا أساسي.
هو ليس مراقبًا للإنجاز فقط، بل صانع إيقاع.
يحتاج إلى مهارات تفهم الاختلاف، وتستثمره لبناء نسق مرن وواضح.
من الأدوات الناجحة في هذا السياق:
-
تنظيم الاجتماعات حسب الإيقاع الطبيعي للفريق
-
تقسيم العمل إلى مراحل مرئية (مثل البوردات أو الكانبان)
-
اعتماد مبدأ “الكتل الزمنية” للتنفيذ الفردي والمشترك
-
الاتفاق على قواعد واضحة للمهام العاجلة والمستعجلة
7. مهارات التفاوض والإقناع ضرورية
لكي يُقنع المدير أعضاء الفريق بالعمل ضمن نسق متوازن، يحتاج إلى جدارات دقيقة في التفاوض والإقناع، منها:
-
الاستماع الفعّال لوجهات النظر المختلفة
-
تقديم حلول وسط تحفظ كرامة الجميع
-
بناء لغة مشتركة تحترم الإيقاع الفردي ولكنها لا تفكك الإيقاع الجماعي
الهدف هو عقد ضمني بين أعضاء الفريق حول كيف ومتى ولماذا ننجز المهام.
8. اختلاف التخصصات لا يبرر غياب التنسيق
في الفرق متعددة التخصصات، من الطبيعي أن تختلف وتيرة العمل:
-
المصمم يحتاج مساحة إبداعية
-
المبرمج يحتاج تركيزا متواصلا
-
مدير المشروع يتحرك وفق مواعيد وضغوط خارجية
لكن هذا لا يعني أن كل شخص يعمل بمنظوره الزمني الخاص دون توافق.
من الضروري ضبط النسق عبر:
-
تحديد مواعيد تسليم واضحة
-
تنظيم الاجتماعات بناء على نقاط التلاقي بين المهام
-
الاتفاق على الجرعات الزمنية المناسبة لكل مرحلة
9. الختام: بناء إيقاع جماعي هو فن إداري
الفرق بين فريق ناجح وآخر متعثر قد يكمن فقط في “الإيقاع”، ذلك النسق الخفي الذي لا يُكتب في العقد ولا يظهر في الجداول.
المدير الذكي هو من يسمعه، يضبطه، ويقوده بثقة.
اختلاف النسق ليس خطرًا، لكن تجاهله هو الخطر الحقيقي.